لى ذكرى جدي...
في العيد
يتكرر الحديث عن جدي كلما استعدت شيئا من طفولتي، لتفرد في شخصيته بالنسبة لي.أو لأن روحه تستحضر نفسها و يطغى حضورها على الشخوص الأخرى،لعلمها أنني أتذكر كي أكتب،و أكتب كي أوثق ذكرى.لا أظن أن هناك نشوة و خلود لروح ميت،أكثر من أن يربطها حبل ذاكرة سري بالمكان و الزمان الذي كانت يوما فيه.تحلق في فضائه كالجنين تماما،بانتظار الميلاد الجديد أو لرفضها التسليم بالغياب.
اكتسبت إسمه،و المكانة الأقرب إلى قلبه،و استنسخت رحيله إلى ألمانيا لكثرة حديثه عنها و عن قطاراتها و جميلاتها،و عن تعدد أصناف الخبز فيها،و بعضا من صفاته الوراثية،جينات الزئبقية و العصبية و تقلب الحالات،و بأن لم يغزو الصلع رأسي كبقية أخوتي (حتى الآن على الأقل).و اكتسبت أيضا بعضا من عاداته،الطريقة المثلى لأكل البطيخ على طريقته،و التي كانت تغيظ أمي.بأن أجلس إلى جانبه أمسك (حز) بطيخ كبير بيد و قطعة من الجبنة البيضاء باليد الأخرى.بينما يسيل ماء البطيخ على مرفقي.يأتيني الأمر بالخطوة الأهم حسب مدرسته.
- نظف!
هذا يعني بأن ألتهم اللب حتى غياب الشفق الإحمر البطيخي،و ظهور الشفق الأبيض،أي القشره.كانت تنتهي حفلة البطيخ تلك بتأنيب أمي بكل الأحوال،أو بلسعة نحلة تسللت من شبك الباب الخلفي في أيام الصيف.تتحين الفرصة المناسبة للإنقضاض.
كنت أكره تناول اللحم،مثله أيضا و يجبرني والدي على أكله بالترغيب و الترهيب،و أخيرا بسلطته الأبوية.
الشيء الذي كنت و إياه على طرفي نقيض منه،(نظرياته) عن التبذير و الإقتصاد و ضرورة ترشيد استهلاك المياه مثلا.
ما إن يسمع صوت الماء المتدفق بقوة من الصنبور،حتى أسمع أنا صوته القادم من غرفته.(خفف المي يا ابن......)
لم يكن هذا لضيق حال،أو لتقتير في نفسه،كان مزيجا من الحرص اكتسبه من طفولته القاسية،و من سنواته في الخدمه العسكرية،و الإنضباط و تفكيره العملي من غربته في ألمانيا.
لا زلت أذكر العيد في إحدى السنوات أواخر الثمانينات.كان والدي قد وصل حديثا من الكويت لقضاء العيد معنا.و قرر مسبقا تقديم أضحية عن روح أمه المتوفاه.كنت أنتظر بفضول كبير صبيحة العيد لأرى اللحظات الأخيرة من عمر الخروف الذي اشتراه أبي قبل أيام.و الذي أصبح (ملطشة) لي و الأخوتي.تارة نمتطيه و تاره نشده من أذنيه.كان أخي الأوسط الأكثر تطرفا،بأن أطلق النار من مسدس(الطاحونة) البلاستيكي في أذني الخروف ليلة العيد،إلى أن خرج الدخان من كلتيهما.
لم يكن لهذا الخروف أن يسمع صوت شحذ السكاكين و تجهيزها في تلك الليلة،لأنه حتما أصيب بالصمم.
جزمة طويلة،بنطال،قميص بلون فاتح،مريول بلاستيكي،سكين كبيرة..حسنا،هذا أبي! مستعدا لذبح الخروف.كان يبدو كمقاتل من العصور الوسطى مثقلا بالدروع،و تبدو عليه قلة الخبرة أيضا.
جدي(بشرواله) التقليدي و قميصه ذو الأكمام القصيرة يبدو مستعدا أيضا، و يراقب المشهد بامتعاظ لاستحواذ أبي على مهمة الذبح.و تبدو عليه حشرية العجوز الذي يرفض تقبل فكرة أنه لا يصلح للمهمات التي تحتاج القوة الجسدية.
يحاول أخوتي الأكبر سنا مساعدة أبي بتثبيت الخروف و أكتفي أنا و أخي الأصغر بالمحاولة الشرفية للمساعدة،إلى أن ينهرنا أحدهم،بضرورة الابتعاد.
يحاول جدي محاولته اليائسة و الأخيرة قبل وضع السكين على رقبة الخروف.
- (يا زلمة هات هالسكينة،انت شو بفهمك في الذبح،طول عمرك تحت المكيف في الكويت،أنا من و أنا زغير كنت أذبح أنا وعمك عبد اللطيف.لحالنا نثبت الخروف)
يلتفت والدي بعصبية ربما لعدم قدرته للتعامل مع سكين الذبح،و لحفظ ماء الوجه
- (يا زلمة بلا ما تجرح حالك أو يضربك الخروف،خليك تفرج بس)
لم يكن لجدي أن يسلم بالأمر بهذه البساطة، غادر المكان معلنا انتهاء الجدال على طريقته.
- ( يلعن أبوك... طالع راسك يابس على خوالك...و القرآن و الرحمن ما بذوقه)
كانت محاولة الإبتزاز الأخيرة لأبي حتى يتنازل له عن المهمة.و محاولة لقطع الطريق عليه لاحقا بالإلحاح عليه لتناول اللحم،في أفضل الأحوال كان يأكل من كبدة الخروف التي درجت عادة أمي أن تعدها صبيحة العيد.
ذهب إلى غرفته،و انبعث بعدها بلحظات دخان غليونه منها،كان الدخان الذي خلفته شرارة الجدال بينه و بين والدي و الإعلان الأول عن (الحرد) المزمن الذي يمارسه جدي من فترة لأخرى،ابتداء بيمينه الغليظ بعدم تناول إفطار العيد معنا،و مقاطعة والدي كلاميا،لتتطور قائمة (الحرد) و المقاطعة لاحقا لتشمل هدايا والدي الكويتية،و أمي و منتجاتها البيتية و عمتي كعقوبة جماعية لتواطئهما مع أبي.باستثنائي أنا و أخوتي لأن حبه لنا كان أكبر من أن يضعنا في (القائمة السوداء).
كنت حزينا لعدم إفطاره معنا،و مستغربا أكثر من إصراره الغريب و رفض أي محاولة للكلام معه حول الموضوع.كان لديه قدرة على التحمل و كان تدخينه المتواصل علامة على مدى غضبه.
لم تكتمل بهجة ذلك العيد لانعزال جدي، أجواء (النكد) مسيطره على البيت و يضطر والدي لاصطناع ابتساماته في وجوه أقرابائنا الزائرين و حين تحشره اسئلتهم عن غياب جدي يروي لهم ما جرى،و حين يحاول أحدهم الوساطة بينهما.يخرج من غرفة جدي يجر أذيال الفشل مصطنعا ابتسامة (حفظ ماء الوجه) و بتبرير ساذج لفشله في الوساطة (ايه..هاد الحج زعلان عن جد).
انتهى اليوم الأول من العيد و لم يتراجع فيه جدي،و لم يتناول الطعام،كان أبي يرسلنا للإطمئنان عليه من وقت لآخر،لم تكن مهمتنا هذه المرة شرفية كما في تثبيت الخروف.بل كانت حقيقية لأننا الوحيدون المرحب بنا في غرفته.و الوحيدون أيضا المسموح لنا بالجلوس جانبه و قراءة ملامح الغضب و الشرود في الفراغ في وجهه ،و عد الغلايين التي يشعلها الواحد تلو الآخر.
في اليوم التالي و بينما كان أبي يسيرنا أنا و أخوتي كدوريات المراقبة حول غرفة جدي،ركضت إليه لأخبره أنني رأيت جدي يتناول الطعام.كان صحن زيتون أخضر و زيت و زعتر و حبات من البندورة و الخبز.كنت سعيدا لرؤيتي له يتناول الطعام و (للخبطة) و السبق الصحفي الذي حظيت به بأن كنت أول من رآه يأكل.
في أحد أيام تلك المقاطعة،زار أبو عدنان جدي،صديقه الأقرب و يكاد يكون الأوحد،و هو بالمناسبة خال والدي المتهم (بيباسة رأسه).كنت أجلس أراقب كليهما و أصغي لحديثهما. اعتقدت أنه سيفلح بإقناع جدي بالعدول عن موقفه،لتتبدل قناعتي أنا حين تحول وجوده إلى دراما محبطة عندما بدأ بالحديث عن معاملة أبنائه له بنفس الطريقة (كلهم هيك،راحت علينا يا جميل....اييييه ضاع حقي يا خوي ما بين شاويش و كومندان)
بدأ الإثنان وصلة من الأبيات الزجلية التي تتحدث عن الظلم و الحق المهضوم.و خرجت أنا برؤيا جديدة بأن أمي شاويش و أبي كومندان و عمتي مساعدة كومندان،و جدي مجرد عجوز مظلوم استولى الباشا على أرضه كما في المسلسلات الأردنية القديمة.
انتهت زيارة أبو عدنان بتمديد جدي للمقاطعة و (حرده) لأيام أخرى.لا أذكر بالضبط كم استمر في ذلك و لكنني أذكر تماما كيف بدأ بالبكاء كالأطفال حين قبل والدي يده معلنا انتهاء عزلته.
كان ذلك تصريحا لأمي و عمتي بالدخول إليه بالطعام.كانت أيام عزلته أياما عجاف، و كانت دموعه كالمطر الذي ينهي حالة الجفاف هذه و تزول معه غمامة الكآبة و الضيق التي كانت تظللنا.
ربما كانت غضبة جدي إحساسا فطريا بأنه في أواخر الخريف من عمره، و بأن رحلته في الصعود هناك،إلى البيات الأبدي قد اقتربت،أو لأنه يرفض التسليم بأنه (بلغ من العمر عتيا)،و بأن روح الشاب ما زالت متوهجة بداخله.و التي دفعته في أحد الأيام بأن يلبس (أفرهول جينز أزرق) و يخلع (قمبازه) و عقاله و كوفيته و القيام بحركات وقعت و أخوتي منها على الأرض ضاحكين.كان يبدو كالمزارعين الألمان في ولاية بافاريا. عيناه الزرقاوتان و بشرته البيضاء أفقدته شرقيته بعد أن خلع كوفيته لدرجة لو أنني قابلته في إحدى محطات القطار هنا بهيئته تلك.لسألته ربما عن موعد القطار بالألمانية.
تعليقاته و انتقاداته اللاذعة لأبي أثناء تناوله الطعام معنا في غرفته بأنه لا يعرف أن يمسك بالسكين و بأنه (ما بعرف حتى يذبح جاجة)،و ابتساماتنا الصامتة كانت قناعة جديدة اكتسبتها بأنه و إن لم يخطئ الآخرون،فإن جدي دوما على حق.
Frohe Feirtage,Herr Ibrahim*
إلى ذكراك هنا...وهناك...حيث أنت...أكتب.
: Frohe Feirtage,Herr Ibrahim* صيغة مخاطبة رسمية باللغة الألمانية ترجمتها: أعياد سعيدة،سيد ابراهيم.